. في مدينة نصيبين أشهر مدن الشرق بالقديسين والملافنة والعلماء، ولد واشتهر أحد عظماء القديسين لكنيسة المشرق في الجيل الرابع، وهو مار يعقوب أسقف نصيبين الملقب بالنصيبيني.
ولد مار يعقوب في مدينة نصيبين من أعمال الجزيرة، أو بين النهرين، ولما شب وكان ذا قريحة جوّادة. إنصب إلى العلوم الدنيوية والإلهية، ولما رأى ان جلّ أهل العالم كانوا مغلوبين للطمع والأباطيل ومحبة اللّذات ومتغافلين عن أهم الأمور وهو خلاص نفوسهم. خاف على نفسه وعزم أن يعيش في الخلوة لكي يقدر أن يحارب أخطار الشهوات، فانطلق إلى جبل عال وسكن في مغارة، وكان في الصيف يخلي مغارته ويسكن في غابة توجد هناك. وكان يلازم الصلوات والتقشف، ويقتات الحشائش ويكتسي برداء وعباءة منسوجين من شعر المعز. وكان يجتهد في أن يخفي نفسه عن الناس.
ولكن كثير من الناس يأتون إليه طالبين صلواته ومسترشدينه في امورهم.
وانطلق مار يعقوب إلى بلاد الفرس ليزور بعض كنائس كانت قد نصبت جديداً، ويشدد في الإيمان المؤمنين الجدد الذين كان يضطهدهم أعداء الديانة المسيحية، ولما حصل هناك، ثبتّ الضعفاء في الإيمان وشوقهم أن يموتوا في حب إيمان المسيح. وهدى كثيراً من الوثنيين إلى معرفة الإنجيل. وأصابه من جرى ذلك اضطهادات كثيرة. ثم رجع إلى مدينته نصيبين
ولشهرة قداسة سيرته وعلمه نصب أسقفاً على مدينة نصيبين، وكانت سيرته في هذه المدينة الجديدة مثلها في الجبال. بل انه زاد عليها الأتعاب التي كانت تقتضيه منه وظيفة الأسقفية. فانه كان يشتغل في ترجيع الخطاة إلى التوبة، وتثبيت الأبرار في الصلوات، وكان له التفات زائد إلى الفقراء فيشركهم في كل ما تحت يده، وبنى في نصيبين كنيسة فخمة.
ولما جاء مار ميلس أسقف سوس إلى نصيبين قضى مدة من الزمان عند مار يعقوب. وتعجب من جمال تلك الكنيسة، ولما رجع إلى مكانه أرسل إلى مار يعقوب أقمشة حريرية ليعملها ثياباً مقدسة لخدمة الذبيحة الإلهية، وبذل هذا القديس كل جهده في تقويم النظام الكنسي، وفي تهذيب الشباب وتثقيفهم، وفتح مدرسة نصب فيها مار افرام تلميذه معلماً، وزينه الله بهبة عمل الكرامات والنبوة.
ولما كان أريوس الملحد يبث أضاليله الكفرية في أماكن كثيرة نال مار يعقوب ان يصون كنيسته من سم هذا الطاعون القتّال للنفوس، وفي سنة 325م حضر في المجمع النيقاوي، وفي سنة 326م. حضر أيضا في المجمع الانطاكي، وفي سنة 336م كان مار يعقوب في مدينة القسطنطينية التي كانت مجلس الروم الشرقي، فتجاسر قسطنطين الملك ابن قسطنطين الكبير وامر الكسندر بطريرك تلك المدينة ان يقبل أريوس الملحد في شركة الكنيسة. والا فليتنزل عن كرسيه، وكان أريوس قد خدع الملك بانه يعترف بايمان الكاثوليكي. فحرض مار يعقوب الجماعة ان يستعينوا بالله على أريوس بالصوم والصلاة، وبعد ثمانية أيام، وكان يوم الأحد إذ كان أريوس مزمعاً أن يدخل الكنيسة حسب أمر الملك. مات هذا الكافر أريوس ميتة شقية.
ومن أعظم العجائب التي جرت على يدي مار يعقوب أسقف نصيبين انه خلص مدينة نصيبين من الفرس، وذلك ان شابور الثاني ملك الفرس حاصرها مرتين في مدة أسقفية مار يعقوب، وكانت المرة الأولى سنة 338م بعد موت قسطنطين الكبير بقليل. وكان عسكر الفرس كثيراً جداً ومعه كثير من الأفيال وكل جنس من الآلات الحربية. وبعدما دام الحصار ثلاثة وستين يوماً، ولم يقدر شابور ان يفتتح المدينة اضطر ان يرجع إلى بلاده خزيان. لان عسكره هلك من المجاعة والأمراض الطاعونية.
وبعد اثنتي عشرة سنة أي سنة 350م جاء شابور مرة ثانية بعسكر جرار إلى مدينة نصيبين وحاصرها مدة أربعة اشهر، ولم يتمكن من فتحها، وأخيراً سد نهر مغدون الذي يمر بهذه المدينة، ولما احتبس الماء وارتفع خرج من مجراه فاندفق بشدة عظيمة وضرب سور المدينة وخرقه، ففرح الفرس بابتداء غلبتهم وأخروا الهجوم على المدينة إلى الغد لسبب طفح المياه، وفي تلك الليلة بنى أهل المدينة سوراً ثانياً برأي مار يعقوب اسقف نصيبين، وفي مدة ما كانوا يبنون السور كان هذا القديس يصلي في الكنيسة طالباً إلى الله أن يبارك أعمالهم، فكملوه إلى الصباح، وأراد شابور أن يهجم على المدينة، فاذا بسور أمامه، فانذهل من ذلك واشتد عجبه، إذ رأى على هذا السور رجلا موشحاً بحلل ملكية، وثوبه الارجواني وتاجه يلمعان ضياء، فظن انه قسطنطينوس ملك الروم فلما تحقق بعد ذلك ان قسطنطينوس كان في انطاكية. علم انها رؤيا وتأكد ان الإله المعبود في المملكة الرومية هذا الإله كان يحمي مدينة نصيبين، فبدل ما يخضع شابور لقدرة هذا الإله العظيم. غضب شديداً وأخد قوسه، وشرع يرشق سهامه في الهواء قاصداً ان يرمي إلاه السماء، وكان مار أفرام السرياني حينئذ في نصيبين تلميداً لمار يعقوب، فلما رأى مضايقة الفرس لهذه المدينة. طلب إلى معلمه قائلاً : العن شابور وعسكره، ولكن مار يعقوب إذ لم يرد هلاك أحد صعد على برج وأدار وجهه نحو عسكر الفرس وصلى قائلاً :
( أيها الرب الذي بقدرته يضع كبرياء المتكبرين. إكسر هذا العسكر بعسكر من بعوض، فاستجاب الله طلبته، وظهر حالاً عساكر لا عدد لها من البعوض حتى ملأت الجو وكانت تدخل في خراطيم الأفيال، وفي مناخر الخيل واذانها، فهاجت الدواب وكسرت لجومها، وقلبت ركابها، فضطرب العسكر وفزع شابور فكرّ، وولى هارباً من قدام الإله العظيم الذي لا يقدر أحد على مقاومته، وهكذا تخلصت المدينة بشفاعة القديس مار يعقوب ).
وبعد زمان قليل توفي وقد ترك في خزانة الكنيسة كتباً صنفها في اللغة السريانية تتضمن الصلاة، والفضائل الإلهية، والأدبية، وحياة المسيح، والتاريخ، وعلوماً كثيرة وأكثرها قد باد.
ومن الجدير بالذكر ان لمار يعقوب الفضل الأول في افتتاح، وانشاء مدرسة نصيبين التاريخية الشهيرة التي طار صيتها وبرز فيها أشهر علماء ومؤلفي طقوس الطوائف الشرقية عامة، والطقس المشرقي خاصة، فكان نبراس الفضيلة والعلم يشع منها مدفقاً أنواره على آفاق الكون بأسره مدة أجيال عديدة ومن البارزين فيها مار أفرام السرياني، ونرساي الملفان، وابراهام ابن أخيه، ومار آبا، وبولس الفارسي، وبرصوما، وهوشاع الثاني، واليشاع بر قوزباي، ويوحنان دبيت ربان وغيرهم.
لقد أتى ذكر القديس مار يعقوب أسقف نصيبين عند كافة الطوائف الشرقية، وعند كنيسة المشرق يحتفل بذكراه في الجمعة الأولى من سابوع الصيف حسب السنة الطقسية لكنيسة المشرق